الصوم صومان
قرائي الكرام جرت العادة ان اتكلم على شهر عظيم عظامة
قدره وبركة خيره الذي جعله الله شهر الرحمة والغفران والثواب الكريم هذا الشهر
الذي هر فعلا رحمة من الخالق والذي ينطبق عليه قوله تعالى ﴿و رحمتي وسعت كل
شيء﴾
لا يسعني إلا ان ادعو نفسي وإياكم لاستغلال هذه الايام
المباركات في العودة الى الجادة وطلب المغفرة والثواب من العلي القدير
واغتنام الفرصة لغسل الذنوب والرجوع عن الافعال المذمومة والأفعال الفاسدة التي
حذر منها تعالى في كتابه الكريم ومحمد ﷺ في سنته النبوية الشريفة
ولا أفضل للعبد المخطئ من هذه الايام المشهورة في القرآن والمباركة بصريح الاي لأنها
ايام نزول الذكر وشمول نورانيته على الكون و خصائل هذا الشهر المبارك كثير وجمة
وعلى رأسها رحمة الله وتجاوزه على المذنب و الخاطيء والضال فاغتنمها ايها القارئ
قبل فوات الاوان ، والله الموفق لأحسن السبل وأقوم الطرق واليه المآل ، اقول لقد
جعل الله العبادات منهاج المسلمين ترشدهم الى قيمة الحياة ذاتها وتهديم الى اقوم
سبلها وأنبل حياتها وتمدهم بالطاقة ، الحياة المتجددة بتعاقب الايام والشهور ومن تلك الايام شهر الله المعظم الذي كتب الله
علينا فيه الصيام كما كتب الله علينا فيه الصيام كما كتبه على الذين من قبلنا
حصانة للجسد بالتهذيب والإصلاح وحصانة للروح بابراز خصائصه وانتصار فضائلها وبهذا
كان الصيام جنة وكان أداؤه طريقا للتقوى الخالصة قال سبحانه وتعالى ﴿يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين
من قبلكم لعلكم تتقون ﴾ومع حلول شهر رمضان
يجد المسلم نفسه اما سؤالين هامين هما كيف يصوم و لماذا يصوم ؟
وفي الاجابة عن هذين السؤالين تحديد لمدى استفادته من
صيامه وانتفاعه به وذلكم لان للصوم مظهرا خارجيا يتمثل في الامتناع عن الطعام
والشراب وعن كل ما يفطر به الصائم في ساعات محددة من اليوم والليلة إلا ان هذا
المظهر الخارجي لابد ان يصاحبه المعنى الحقيقي للصوم والذي يتمثل في سلوك منتظم
ونقاء
شامل وطهارة كاملة وإخلاص
لله وللناس ثم لا يكون ذلك كله محدود ساعات من اليوم والليلة وإنما يكون مستمرا مع
الشهر الفضيل كله ثم العام من بعده لان
الصائم يتعود ان يمسك زمام نفسه من ان تسترق لنزوة واو تخضع لشهوة او تنحرف في
تيار الهوى الضال او تضل عن الصراط المستقيم وتكون لذلك الارادة الصادقة والعزيمة
القوية التي ترد هواجس الشر وتبطش بالهوى الكذوب وتنطق باللسان الى الكمال الروحي والأخلاقي ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق
الحياة عبثا ولم يضيع الفرائض هباء وإنما يعظم بهدفه فيها ويتجدد به و الامة في
مجموعها ولا بد لها من هدف يوحد بين افرادها كذلك والصوم بتربيته للنفس وتقويمه للغرائز
وطبعه للفرد بطابع المجموع هو الذي يكون الفرد الصالح و الامة الخيرة ولهذا كان
الصوم عبادة خالصة لله خالق الانسان في كل زمان ومكان فقد ورد في الصحيح عن ابي
هريرة وابي سعيد (ض) عنهما قالا : قال رسول الله (ص) إن الله عز وجل يقول ﴿ إن الصوم لي و انا اجزي به ﴾ ومادام رمضان شهر إمساك النفس عن شهوات لها لم تكن
محرمة عليها وليست ممنوعة عليها في غير وقت الصيام أثناء النهار فهو إذن تربية
للنفس ان تمتنع عن مرغوب فيه محبوب مستلذ مستطاب ليتعود الانسان المسلم ان يكون
سيد نفسه ومالك امره والمتصرف بإرادته فيمتنع عن المحرمات ويجتنب الفواحش
والمنكرات إن المراد من الصيام والسر منه هذا الاعداد للنفس لتراقب ربها وتلاحظ
انه يراها كل حين وفي اي مكان وإن لم تكن تراه فهي دائما تتقيه وتخشاه سرا وعلانية
فالصيام سر بين العبد وربه يستطيع الصائم ان يفطر دون ان يراه احد ممن اعتاد ان
يراه ولكنه لا يفطر مخافة الله ،
وقد جاء في الحديث القدسي قال الله عز وجل ( كما عمل ابن آدم له إلا الصيام
فإنه لي وأنا اجزي به والصيام جنة فإذا كان يوم صوم احدكم فلا يرفت ولا يخصب فإنه
سابه أحدكم او قاتله فليقل إني صائم إني صائم ) ويحق للمسلم ان يعرف ان الصوم
درجات ثلاث وهي صوم العموم والمتمثل في الامساك عن الطعام والشراب وغيرها مما هو
متعارف عليه وصوم الخصوص وهو صوم الصالحين و الصوفياء الاصفياء الذين أخلصوا لله
دينهم وأقاموا له وجوههم واسلموا زمام امورهم واستظلوا بظلال تعاليم الدين الحنيف
ووضعوا نصب اعينهم قوله تعالى ﴿ وما خلقت الجن والإنس
إلا ليعبدون ﴾ وقوله في الحديث القدسي
( يا بن آدم تفرغ لعبادتي املأ صدرك غنى وأسد فقرك وذلك الصوم يزيد على صوم العموم
بكف الجوارح كلها مكروه ومحرم وتمام ذلك
ينظم امورا خمسة : غض البصر ، وحفظ اللسان ، وكف السمع ، وتعلق القلب بين الخوف
والرجاء ، وهو صوم خصوص الخصوص وهو صوم الانبياء والصديقين والمقربين الذين يجمعون
ما سبق من الصومين صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله
عز وجل فمن تفكر فيما سوى الله عز وجل فقد
افطر وفسد صيامه فقد قال ارباب القلوب من تحركت همته بالتصرف في النهار في التفكير
فيما لا يحل مما احله الله من الطيبات فقد ارتكب خطيئة في وقت الذنوب والخطايا
والرسول (ص) يقول ( من صام رمضان ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) ثم
نصوم لان الصوم نصف الصبر والصابرون يوفون اجورهم بغير حساب وبذلك نكتشف ان الصوم
طريق ممهد الى الجنة التي وعدها الله لصائمين المتقين فصوم بلا تقوى لا فائدة فيه
ولا جدوى ترجى منه فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش وكم من قائم له
له من قيام هالا السهر فمن ذا الذي يسمع ان الجنة بابا اسمه ( الريان ) لا يدخل منه
إلا الصائمون ثم لا يقبل على الصوم فرحا مسرورا.
إن الصوم ايها القراء الكرام في حد ذاته مظهر من مظاهر
الوحدة الاسلامية العظيمة لان ممارسته في شهر واحد وفي ايام معينة من كل عام يشترك
فيه القاصي والداني من المسلمين في انحاء العالم يشكل امة مؤمنة واحدة موحدة اذ
يمسك افرادها عن الطعام والشراب تقربا الى الله ويتصرفون في حذره خشية ان يتعدوا
حدود الله هذه الامة يربط بين افرادها رباط وثيق من المشاركة الوجدانية والشعور
بالتضامن الاخوي لان المؤمنين إخوة لانهم يمثلون اسرة واحدة يفرح الفرد منها لفرح
الاخرين ويتألم لالامهم ويسعى بجهده وعرقه ودمه لمساعدة من هم في حاجة الى
المساعدة (يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ) إن الصوم مجال واسع يحقق
للفرد والجماعة الاحساس بألام الفقير الجائع الذي لايجد قوت يومه ومن هنا ندرك ان
فريضة الصوم تجعل مجتمعنا مجتمعا ذا حساسية مرهفة مجتمعا عطوفا ودودا رحيما
مجتمعنا متكافلا متعاونا لاتجد له مثيل في المجتمعات الاخرى .
ايها القراء الكرام يقول ابن عمر (ض) في هذا السياق ،
إذا دخل اول ليلة من شهر رمضان مرحبا بشهر خير كله صيام ، نهاره وقيام ليله النفقة
فيه كالنفقة في سبيل الله تعالى ، وعن انس بن مالك (ض) عنه انه قال لا يخرج
الصائمون من قبورهم يوم القيامة يعرفون بريح صيامهم يخرج من افواههم اطيب من ريح
المسك ، تنقل اليهم الموائد والأباريق مختومة افواهها بالمسك فيقال لهم كلوا لقد
جعتم حين شبع الناس اشربوا فقد عطشتم حين روى الناس ، واستريحوا فقد تعبتم حين
استراح الناس قال فيأكلون ويشربون ويسترحون والناس مشغولون في الحساب في عناء و ضمأ
.
قال محمد بن ابي الفرح احتجت في شهر رمضان الى جارية
تصنع لنا الطعام فوجدت في السوق جارية ينادى عليها بثمن يسير وهي مصفرة اللون
نحيفة الجسم يابسة الجلد فاشتريتها رحمة لها واتيت بها الى المنزل فقلت لها خدي
اوعية وامضي معي الى السوق لنشتري حوائج رمضان فقالت يا سيدي انا كنت عند قوم كل
زمانهم رمضان فعلمت انها من الصالحات فكانت تقوم الليل كله في شهر رمضان فلما كانت
اخر ليلة قلت لها امضي بنا الى السوق لنشتري حوائج العيد فقالت حوائج العوام ام
حوائج الخواص فقلت حوائج العوام فقالت يا سيدي حوائج العوام الطعام المعهود في
العيد وحوائج الخواص الاعتزال على الخلق والتغريد والتفرغ للخدمة والتجريد والتقرب
بالطاعات للملك المجيد والتزام ذل العبيد فقلت لها إنما اريد حوائج
الطعام فقالت يا سيدي اي طعام تعني طعام الاجساد ام طعام القلوب فقلت اصفيهما لي
فقالت اما طعام الاجساد فهو القوت المعتاد واما القلوب فترك الذنوب وإصلاح العيوب
والتمتع بمشاهدة المحبوب والرضا بحصول المقصود والمطلوب وحوائجه الخشوع والتقوى
وترك الكبر والدعوى والرجوع الى المولى والتوكل عليه في السر والنجوى ثم انها قامت
تصلى فقرأت في الركعة الاولى سورة البقرة الى اخرها ثم شرعت في سورة ال عمران ثم
لم تزل تختم سورة بعد سورة حتى وصلت الى سورة ابراهيم الى قوله تعالى (يتجرعه ولا
يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ ).
ثم لم تزل تردد هذه الاية وهي تبكي الى ان اغمى عليها
ووقعت الى الارض فحركتها فإذا هي ميتة رحمة الله عليها فالله درهم من اقوام غسلوا
وجوههم بدموع الاحزان واسهروا عيونهم في الليل بالذكر وتلاوة القرآن ونصبوا
اقدامهم في خدمة الملك الديان واجتهدوا في العمل وبادروا الزمان فكل زمانهم رمضان
طوبى لهم فازوا بذكر حبيبهم .
ايها القراء الكرام اكثروا من التضرع الى الله عز وجل
وقوموا برفع الاصوات آلهنا لا تحرمنا من نبيك الشفاعة ، واجعل التقوى لنا اربح بضاعة
، ولا تجعلنا في شهرنا هذا من التفريط والاضاعة ، ومن خوفنا يوم الساعة ، واخيرا
نبتهل الى الله ان يجمعنا على الحق وينصرنا بالارادة القوية وان يجعل الله شهر
رمضان المعظم هذا العام فاتحة خير وبشر يمن ومناسبة تجمع الكلمة وتوحد الشمل بين
ابناء الامة الجزائرية ، نسألك اللهم ياذا الجلال والاكرام ان تلهمنا الاخلاص في
فريضة الصوم وفي كل الفرائض وان تتقبل منا اعمالنا وتحقق رجاءنا وان تهيء قلوبنا
الى الخير وحب الخير وان تشملنا بعطفك وعنايتك ورعايتك إنك انت نعم المولى ونعم
النصير آمين.
الشيخ مصطفى السنوسي